فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (61):

{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. {ما تَرَكَ عَلَيْها} أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله: {مِنْ دَابَّةٍ} فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة فهو خاص.
وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
وقيل: المراد بالآية العموم، أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبى ولا غيره، وهذا قول الحسن.
وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولامسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل، كما قال: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وقد تقدم فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم». وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: {يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته}. وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في كتاب التذكرة وتقدم في المائدة وآخر الأنعام ما فيه كفاية، والحمد لله.
وقيل: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ} أي من البنات. {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} قال مجاهدك هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. {الْكَذِبَ} مفعول {تصف} و{أَنَّ} في محل نصب بدل من الكذب، لأنهبيان له.
وقيل: {الْحُسْنى} الجزاء الحسن، قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن {الْكَذِبَ} برفع الكاف والذال والباء نعتا للالسنة، وكذا {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}. والكذب جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. {لا} رد لقولهم، وتم الكلام، أي ليس كما تزعمون. {جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} أي حقا أن لهم النار. وقد تقدم مستوفى. {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} متركون منسيون في النار، قاله ابن الاعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا فرطكم على الحوض} أي متقدمكم.
وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ** كما تعجل فراط لوراد

والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش {مفرطون} بكسر الراء وتخفيفها، وهى قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ {مفرطون} بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب.

.تفسير الآية رقم (63):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)}
قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}
في الآخر وقيل: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} أي قرينهم في النار. {الْيَوْمَ} يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته.
وقيل: يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ} أي القرآن {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك {هُدىً وَرَحْمَةً} على موضع قوله: {لِتُبَيِّنَ} لان محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. {وَهُدىً} أي رشدا {وَرَحْمَةً} للمؤمنين.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ} أي السحاب. {ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً} أي دلالة على البعث وعلى وحدانيته، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان، {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} قد تقدم القول في الأنعام، وهى هنا الأصناف الاربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. {لَعِبْرَةً} أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه {فَاعْتَبِرُوا}.
وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شي. ومن أعظم العبر برئ يحمل مذنبا.
الثانية: قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ} قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر بفتح النون من سقى يسقى. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقى، وهى قراءة الكوفيين واهل مكة. قيل: هما لغتان.
وقال لبيد:
سقى قومي بنى مجد وأسقى ** نميرا والقبائل من هلال

وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لان يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته، قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة {تسقيكم} بالتاء، وهى ضعيفة، يعني الأنعام. وقرى بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين، ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.
الثالثة: قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِها} اختلف الناس في الضمير من قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه.
وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهى الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير، وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى: {إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} وقال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير.
وقال الكسائي: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} أي مما في بطون بعضه، إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة.
وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها} وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما. حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.
الرابعة: لاستنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جئ به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم، لان اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة رضى الله عنها في حديث أفلح أخى أبى القعيس«فللمرأة السقي وللرجل اللقاح» فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى قول في تحريم لبن الفحل في النساء والحمد لله.
الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً} نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق.
وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجرى اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش، {حكمة بالغة فما تغن النذر}. {خالِصاً} يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد.
وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان خضر المناكب

أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
السادسة: قال النقاش: في هذا دليل على أن المنى ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المنى على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم واخذ شنيع، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنى من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه. قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأى منة أعظم وأرفع من خروج المنى الذي يكون عنه الإنسان المكرم، وقد قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ}، وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت افركه من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يابسا بظفرى. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد ابن أبى وقاص يفرك المنى من ثوبه.
وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم.
وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المنى وطهارته التابعون.
السابعة: في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به، لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة، لان الصبى قد يغتذى به كما يغتذى من الحية، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم». ولم يخص، وقد مضى في: النساء.
الثامنة: قوله تعالى: {سائِغاً لِلشَّارِبِينَ} أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني، وقال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ}. والسواغ بكسر السين ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جيزت بغصة وروى: أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروى ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
التاسعة: في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في المائدة وغيرها. وفى الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدحى هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء.
وروى عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.
العاشرة: روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن فشرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزى عن الطعام والشراب إلا اللبن». قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذى به الإنسان وتنمى به الجثث والأبدان، فهو قوت خلى عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الامة التي هي خير الأمم أمة، فقال في الصحيح: «فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك». ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات وكثرة والبركات، فهو مبارك كله.